كم من المرات التي كنت تتكلم فيها مع أحدهم عن أمور الأبدية والروحانية والأخلاقية وغيرها، فصدّك بعبارة أنه يثق بالعلم، ويصدق ما يمليه عليه العلم والعلماء فقط، وكتبه المقدسة هي ما تمت مقارنتها بين النظراء (peer reviewed)؟ في الحقيقة، إن من يؤمن بأنه ما من حقيقة إلا الحقيقة العلمية التي أثبتها العلم، يرتكب بينه وبين نفسه في الحال مغالطة منطقية، لأن هذا الادعاء نفسه لا يمكن إثباته بالوسائل العلمية التقليدية، ما يدل على بطلانه لتناقضه مع نفسه، وهذا فقط مبدأ النقاش.
في أيامنا المعاصرة، والتي يبدو أنها بداية النهاية، أو مبتدأ الأوجاع على حد تعبير مخلصنا يسوع المسيح:" (إنجيل متى 24: 8) ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع."، تسود فكرة أن الدين بشكل عام هو ليس إلا للجهلاء الذين لا يُعمِلون فكرَهم كفايةً، والبسطاء المسحوقين والذين يريدون أن يهربوا من مآسي الحياة بأفيون الدين على حد تعبير الفيلسوف كارل ماركس: "الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعب"، وأما الناس الأذكياء، الذين يستغلون قدراتهم الفكرية بشكل جيد، فهم لا ينزِعون إلى الدين ولا يقبلونه، وقد أثبتوا سخافة فكرة وجود إله مطلق، ووجدوا طريقاً ’علميةً‘ محضة لفهم العالم، وعلى تلك الطريق لا مكان للمعجزات أو الخوارق أو ما فوق الطبيعة.
في حقيقة الأمر، إن تلك النظرة للدين المسيحي لهي مجحفة وقاصرة، وهي تفترض أن الحاجة الرئيسة للأديان والآلهة هي لتفسير الظواهر الطبيعية غير المفهومة من قبل الناس آنذاك (كنسب الرعد والبرق إلى صراع أو غضب الآلهة في بعض الميثيولوجيا، أو إلى قيام الملائكة ب’رعي‘ الغيوم، فيصدرون أصوات الرعود المخيفة عند زجرهم لها في أديان أخرى)، ويضعون المسيحية في نفس الخانة من باب التعميم الجائر، ويدعون إلى رفضها لأن التفسيرات العلمية للأمور الطبيعية باتت في متناول اليد وما عادت لنا حاجة بالرب أو بالمسيحية. نعم، قد يكون الشطط والمطط قد أخذ مأخذه في بعض الأديان، ولكن بالنسبة للمسيحية، تتعدى أسباب الإيمان بالرب الحاجات العالمية والمادية، وتتضمن المعطيات التاريخية والفلسفية والأخلاقية، إلى جانب الأسباب الجماليّة الطبيعية، وتلك المتصلة بالتجارب والخبرات الشخصية.
إلى جانب ذلك، إنه لمن الخطورة بمكان أن يقفز المرء من العلم (science) إلى العلمانية (scientism): أي من حقيقة أن العلم قادر على تفسير العديد (والكثير) من الأمور، إلى وهم أن العلم قادر أن يفسر كل شيء. زد على ذلك، إن التقدم العلمي الحادث مؤخراً والمتزايد في التسارع يقدم لنا دون شك مفاهيم وتفسيرات ونظريات جديدة تساهم في توسيع فهمنا للكون والطبيعة وكيفية عملهما، إلا أن هذا لا يعني بحال من الأحوال أنه لا شخصية خلف تلك الكيفية: فالعلم إذ يفسر غوامض الكون لا يقول بعدم وجود كائن أسمى من الكون والطبيعة يتخطى حدودهما وينظم معالمهما - هذه سفسطة.
خذ مثلاً نظام التشغيل الحاسوبي الويندوز: يستطيع أحد علماء الحاسوب المرموقين أن يفسر لك بالتفصيل كيف يعمل، وكيف هو مبنيّ، إلا أن ذلك التفسير العلمي ليس دليلاً على أن شركة مايكروسوفت -أو لنقل بيل غيتس- غير موجود؛ على النقيض، إن ذلك سيظهر كم أن بيل غيتس ذكي ومجتهد. إن السؤال عن الآلية أو الكيفية العلمية ليس معنيّاً بالسؤال عن الشخصية، ولا هو معنيّ بالسؤال عن الغرض والهدف الأسمى من وجود تلك الآلية؛ وبالإسقاط على المثال أعلاه، فقط بيل غيتس هو من يستطيع أن يخبرك بشكل حاسم عن الغرض من برمجة نظام الويندوز بالدرجة الأولى.
خذ مثلاً نظام التشغيل الحاسوبي الويندوز: يستطيع أحد علماء الحاسوب المرموقين أن يفسر لك بالتفصيل كيف يعمل، وكيف هو مبنيّ، إلا أن ذلك التفسير العلمي ليس دليلاً على أن شركة مايكروسوفت -أو لنقل بيل غيتس- غير موجود؛ على النقيض، إن ذلك سيظهر كم أن بيل غيتس ذكي ومجتهد. إن السؤال عن الآلية أو الكيفية العلمية ليس معنيّاً بالسؤال عن الشخصية، ولا هو معنيّ بالسؤال عن الغرض والهدف الأسمى من وجود تلك الآلية؛ وبالإسقاط على المثال أعلاه، فقط بيل غيتس هو من يستطيع أن يخبرك بشكل حاسم عن الغرض من برمجة نظام الويندوز بالدرجة الأولى.
"ما من اكتشاف علميّ حتى الآن، وعلى أي صعيد، يميل إلى الإشارة لعدم وجود الرب، ولو قيد شعرة" بيتر فان إنواغن (Peter van Inwagen) - من أشهر فلاسفة العالم [مرجع رقم 1]. |
وإذ يرد عليه صديقه بأنه ما من أمر خارج الطبيعة يستطيع أن يجعل 2+2 = 5، يسأله لويس: وهل إذا وضعت 2 + 2 من النقود في جارورك ستجدهما 4 في اليوم التالي؟ إن هذا فعلاً مضمون شرط ألّا يعبث أحد ما بالجارور ويسرق ما فيه، وهذا لبّ القضيّة. القوانين الحسابية التي تحكم الطبيعة تستطيع أن تخبرك وبدقة مطلقة عما ستجد في جارورك فقط إن لم يكن هناك عوامل تدخل خارجية، وإلا حصلت على نتيجة أُخرى، ليس لأن السارق كسر القوانين الطبيعية أو الحسابية (ربما كسر قوانين الدولة فقط)؛ فخلاصة الأمر أن التدخل الخارجي قادر على تغيير الواقع الذي تعرفه، ليس بمعنى كسر قوانين الطبيعة، ذلك أن تلك القوانين بحد ذاتها لا تأخذ بالحسبان عوامل التدخل الخارجية والفائقة للطبيعة، وفي حالتنا، إننا ندعو ذلك التدخل الخارق للطبيعة معجزة.
وكما ذكرنا آنفاً، لقد بات على كل لسان القول أن المسيحية والعلم هما في حالة حرب مستعرة، فمن أين بدأ الأمر وما أصل هذا الزعم؟ إن ما ننعم به اليوم من تقدم علمي غير مسبوق لهو وليد الثورة العلمية التي اضطرمت بين القرنين 16 و 17، أرخى أول أشعتها العالم نيكولاس كوبرنيكوس (Nicholas Copernicus) في العام 1543 -وهو مسيحي ملتزم-، واقتفى أثره العالم المسيحي الملتزم كيبلر (Kepler) وجاليلو (Galileo) الذي بقي وفياً لكنيسته مدة حياته، والتي لم تنته بأن أحرقته الكنيسة، فهذه مجرد خديعة يروج لها البعض. نضيف إلى أولئك القادة العظيم نيوتن (Newton) الغنيّ عن التعريف، وروبرت بويل (Robert Boyle) أب الكيمياء الحديثة؛ كلاهما كانا كاتبين لاهوتيين مسيحيين استثنائيين. كما ترون، الغالبية العظمى من قادة الثورة العلمية، أمّ العلم الحديث، كانت من المسيحيين المخلصين لإيمانهم، ومنهم من كتب في اللاهوت أكثر مما كتب في العلم، ما يرسم إشارة استفهام كبيرة حول تلك الحرب الزائفة بين المسيحية والعلم.
بالإضافة لما سبق، إن انبثاق الثورة العلمية من المجتمعات المسيحية وبالأيدي المسيحية ليس من باب الصدفة؛ لقد شكلت المسيحية الحاضنة المناسبة التي تسمح للعلم أن يزدهر في أكنافها، وذلك للنقاط التالية:
- تعلّم المسيحية أن الكون صالح وحسن وأن المادة ليست شراً، ولو كانت شراً لما نزع أحد إلى دراستها وتمحصيها. هذا التعليم المسيحي مستمد من الكتاب المقدس: "(سفر التكوين 1: 31) ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا"؛
- الكون في المسيحية خلقة الإله الواحد مصدر الحكمة والمنطق والنظام، فهو كون منظم ومنطقي، ما يشجّع على فحصه وإماطة اللثام عما فيه من نظام ومنطق، وإلا فلو كان نتيجةً عشوائية لعمليات غير موجّهة، فما الذي سيحفّز أحدهم أن يلهو في غياهب العشوائية والفوضى؟ إن هذه نقطة شديدة الأهمية؛
- الكون في المسيحية ليس إلهي مقدس لا يمكن المساس به، أو مصمت أزلي أبدي لا يمكن فهمه؛
- المسيحية لا تمنع السؤال وتشجّع على التفكير والتأمل، بخلاف بعض الأديان الأخرى؛
- الإنسان نفسه صورة الرب الأسمى، وفهمه واستدلالاته المنطقية يمكن الاعتماد عليها، وهو قادر على سبر أغوار الأنظمة والنماذج الطبيعية، مما يزيد الثقة في إمكانيته أن ينتج علماً موثوقاً، وقدرته على صقل ذلك العلم وتحسينه. بالمقارنة مع الداروينية مثلاً، ولكي نسلّط الضوء على أهمية هذه النقطة التي قدمتها المسيحية وعززت بها نشوء العلوم، نورد هنا قولاً لداروين (Charles Darwin) أرسله لويليام غراهام (William Graham) في 3 تموز-يوليو عام 1881:
"ولكن بعد ذلك يراودني دائماً ذلك الشك الفظيع فيما إذا كانت آراء وقناعات العقل البشري، الذي تطور من عقول الكائنات الأدنى، لها أي قيمة أو موثوقية. ألعلّ أحدهم سيثق بقناعات وآراء عقول القردة، إذا افترضنا وجود مثل تلك الأمور في عقولهم بالدرجة الأولى؟"بعبارة أخرى، لقد لعبت الإيمانيات المسيحية دوراً مفتاحياً في نشأة العلم وترعرعه، ما يعبّر عنه الفيسلوف والمؤرخ وعالم الآثار آر جي كولينغوود (R. G. Collingwood) بقوله [3]:
حتى عند طرح نظرية التطور، رفضها بعض العلماء بدايةً وقبلها بعضهم الآخر، وكان الأمر كذاك بين أوساط اللاهوتيين، وقد يفاجئ القارئ أن يعلم أنه بحلول العام 1885 اعتُبر التطور والإيمان المسيحي متوافقين من قبل معظم المسيحيين المتعلمين، وذلك بحسب المؤرخ البريطاني أوين تشادويك (Owen Chadwick) [5]، ونحن لا نورد ذلك لنقول بأن التطور متوافق مع الخلق، ولكن لنشير إلى مدى هشاشة الادعاء القائل بأن المسيحية تضادّ العلم وتحاربه وتقمعه بشكل أعمى.
رغم ذلك، شهدت أواخر القرن 19 استهلال فكرة الحرب المزعومة بين العلم والمسيحية: تلك الفكرة المعاصرة إذاً هي ليست إلا فكرة حديثة نسبياً، وقد أسس لها بالفعل مفكرون علمانيون سعوا إلى تقويض السيادة الثقافية للمسيحية في الغرب، وأرادوا استبدالها بمذهب الطبيعيّة الذي يعلّم بأنّه ما من أمر حقيقيّ خارج الطبيعة، ولا سبيل لاكتشاف الحقيقة إلا بالعلم وحده.
في العام 1896، نشر أندرو ديكسون وايت (Andrew Dickson White)، رئيس جامعة كورنيل (Cornell) آنذاك، كتاباً بعنوان "تاريخ حرب العلم مع اللاهوت في المسيحية" (A History of the Warfare of Science with Theology in Christendom)، وبتأثير وايت وكتابه، استُخدم مصطلح الحرب لوصف العلاقة بين العلم والمسيحية في النصف الأول من القرن العشرين. نتيجةً لذلك، شاعت هذه الفكرة في الثقافة الغربية حتى بين المسيحيين أنفسهم، واعتُبر العلم والمسيحية نقيضين بدلاً عن حليفين متعاونين في البحث عن الحقيقة والحق، كما سبقنا وأشرنا.
إلّا أن تلك الفكرة السطحية لم تمرّ مرور الكرام، فقد أدرك فلاسفة العلوم في النصف الثاني من القرن العشرين أن تصوير المسيحية والعلم في حالة حرب مستعرة ليس إلا مغالاة وتبسيطاً مبالغاً به للواقع. يواجه العلم خلال سبره للكون أسئلة مستعصية ذات طبيعة فلسفية لا يمكن فك غموضها علمياً فقط، وإزاءها يمكن للمنظور اللاهوتي أن يلقي الضوء على بعض مكنوناتها. في نفس الوقت، باطل هو اعتبار كل ما يدلي به دينٌ ما عن العالم زائف وخاطئ، ولكن لكثرة أديان العالم وزور كمّها الأكبر، تتناقض ادعاءاتها بين بعضها البعض حول أصل الوجود وطبيعة الكون والإنسانية، لذا لا يمكن أن تكون كلها صحيحة. مما سبق يمكن أن نشبه العلاقة بين العلم والدين (المسيحي) على أنها علاقة متداخلة بشكل جزئي، وليست متناقضة.
العلاقة بين العلم والدين المسيحي تتضمن التعاون والتداخل، وليست عبارة عن حرب وتناقض. |
- من تلك الهيئات:
- The European Society for the Study of Science and Theology
- The Science and Religion Forum
- The Berkeley Centre for Theology and Natural Science
- والمجلات المختصة:
- Zygon
- Perspectives on Science and Christian Faith
- والمجلات العلمانية:
- Nature
- The British Journal for the Philosophy of Science
- والجامعات التي أسست كراسي خاصة للعلم والدين:
- Cambridge University
- Oxford University
يمكننا باختصار تلخيص العلاقة بين العلم والدين بالبنود التالية [7]، والتي يمكن أن نستفيض فيها في مقال آخر:
- يوسّد الدين المنظومة المفاهيمية التي تمهّد الطريق أمام العلم ليزدهر فيها؛
- يستطيع العلم أن يفنّد أو يؤكّد ادعاءات الدين أحياناً؛
- إذ يواجه العلم مشاكل ميتافيزيقية في خضمّ عمله، يقدّم الدين يد العون في سبيل تفطّنها وحلّها؛
- يساهم الدين في الحكم بين النظريات العلمية؛
- يساعد الدين على تعزيز القدرة التفسيرية للعلم.