2018-07-13

المسيحية والعلم: هل هما في حالة حرب؟!

كم من المرات التي كنت تتكلم فيها مع أحدهم عن أمور الأبدية والروحانية والأخلاقية وغيرها، فصدّك بعبارة أنه يثق بالعلم، ويصدق ما يمليه عليه العلم والعلماء فقط، وكتبه المقدسة هي ما تمت مقارنتها بين النظراء (peer reviewed)؟ في الحقيقة، إن من يؤمن بأنه ما من حقيقة إلا الحقيقة العلمية التي أثبتها العلم، يرتكب بينه وبين نفسه في الحال مغالطة منطقية، لأن هذا الادعاء نفسه لا يمكن إثباته بالوسائل العلمية التقليدية، ما يدل على بطلانه لتناقضه مع نفسه، وهذا فقط مبدأ النقاش.

في أيامنا المعاصرة، والتي يبدو أنها بداية النهاية، أو مبتدأ الأوجاع على حد تعبير مخلصنا يسوع المسيح:" (إنجيل متى 24: 8) ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع."، تسود فكرة أن الدين بشكل عام هو ليس إلا للجهلاء الذين لا يُعمِلون فكرَهم كفايةً، والبسطاء المسحوقين والذين يريدون أن يهربوا من مآسي الحياة بأفيون الدين على حد تعبير الفيلسوف كارل ماركس: "الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعب"، وأما الناس الأذكياء، الذين يستغلون قدراتهم الفكرية بشكل جيد، فهم لا ينزِعون إلى الدين ولا يقبلونه، وقد أثبتوا سخافة فكرة وجود إله مطلق، ووجدوا طريقاً ’علميةً‘ محضة لفهم العالم، وعلى تلك الطريق لا مكان للمعجزات أو الخوارق أو ما فوق الطبيعة.

في حقيقة الأمر، إن تلك النظرة للدين المسيحي لهي مجحفة وقاصرة، وهي تفترض أن الحاجة الرئيسة للأديان والآلهة هي لتفسير الظواهر الطبيعية غير المفهومة من قبل الناس آنذاك (كنسب الرعد والبرق إلى صراع أو غضب الآلهة في بعض الميثيولوجيا، أو إلى قيام الملائكة ب’رعي‘ الغيوم، فيصدرون أصوات الرعود المخيفة عند زجرهم لها في أديان أخرى)، ويضعون المسيحية في نفس الخانة من باب التعميم الجائر، ويدعون إلى رفضها لأن التفسيرات العلمية للأمور الطبيعية باتت في متناول اليد وما عادت لنا حاجة بالرب أو بالمسيحية. نعم، قد يكون الشطط والمطط قد أخذ مأخذه في بعض الأديان، ولكن بالنسبة للمسيحية، تتعدى أسباب الإيمان بالرب الحاجات العالمية والمادية، وتتضمن المعطيات التاريخية والفلسفية والأخلاقية، إلى جانب الأسباب الجماليّة الطبيعية، وتلك المتصلة بالتجارب والخبرات الشخصية.

إلى جانب ذلك، إنه لمن الخطورة بمكان أن يقفز المرء من العلم (science) إلى العلمانية (scientism): أي من حقيقة أن العلم قادر على تفسير العديد (والكثير) من الأمور، إلى وهم أن العلم قادر أن يفسر كل شيء. زد على ذلك، إن التقدم العلمي الحادث مؤخراً والمتزايد في التسارع يقدم لنا دون شك مفاهيم وتفسيرات ونظريات جديدة تساهم في توسيع فهمنا للكون والطبيعة وكيفية عملهما، إلا أن هذا لا يعني بحال من الأحوال أنه لا شخصية خلف تلك الكيفية: فالعلم إذ يفسر غوامض الكون لا يقول بعدم وجود كائن أسمى من الكون والطبيعة يتخطى حدودهما وينظم معالمهما - هذه سفسطة.

خذ مثلاً نظام التشغيل الحاسوبي الويندوز: يستطيع أحد علماء الحاسوب المرموقين أن يفسر لك بالتفصيل كيف يعمل، وكيف هو مبنيّ، إلا أن ذلك التفسير العلمي ليس دليلاً على أن شركة مايكروسوفت -أو لنقل بيل غيتس- غير موجود؛ على النقيض، إن ذلك سيظهر كم أن بيل غيتس ذكي ومجتهد. إن السؤال عن الآلية أو الكيفية العلمية ليس معنيّاً بالسؤال عن الشخصية، ولا هو معنيّ بالسؤال عن الغرض والهدف الأسمى من وجود تلك الآلية؛ وبالإسقاط على المثال أعلاه، فقط بيل غيتس هو من يستطيع أن يخبرك بشكل حاسم عن الغرض من برمجة نظام الويندوز بالدرجة الأولى.


"ما من اكتشاف علميّ حتى الآن، وعلى أي صعيد، يميل إلى الإشارة لعدم وجود الرب، ولو قيد شعرة" بيتر فان إنواغن (Peter van Inwagen) - من أشهر فلاسفة العالم [مرجع رقم 1].
ولنزيدكم من الشعر بيت عن حدود العلم ونطاقه، يخبرنا المدافع المسيحي الشهير سي إس لويس (C. S. Lewis) عن حوار شيق دار بينه وبين صديق له في كتاب God in the Dock [2]، مجمله أن ذاك الصديق ادعى بأن العلم الحديث قد أثبت أنه ما من شيء من قبيل الميلاد العذراوي -أي كما حصل مع الرب يسوع-، فيناقشه سي إس لويس بالتساؤل: أي من العلوم أثبت مثل هذا الأمر؟ فإن العلم بالتعريف يدرس الطبيعة ونطاقها، وفي حالة الكلام عن الميلاد العذراوي، فإننا لا نسأل طبعاً عن كون هذا الأمر طبيعياً، بل عمّا إذا وُجد شيء أو شخص ما خارج الطبيعة أو ما وراءها، فكيف يمكن للمرء أن يعلم يقيناً أن مثل ذاك الشخص/الشيء غير موجود بوساطة العلم الذي مضماره ما هو طبيعي فحسب؟

وإذ يرد عليه صديقه بأنه ما من أمر خارج الطبيعة يستطيع أن يجعل 2+2 = 5، يسأله لويس: وهل إذا وضعت 2 + 2 من النقود في جارورك ستجدهما 4 في اليوم التالي؟ إن هذا فعلاً مضمون شرط ألّا يعبث أحد ما بالجارور ويسرق ما فيه، وهذا لبّ القضيّة. القوانين الحسابية التي تحكم الطبيعة تستطيع أن تخبرك وبدقة مطلقة عما ستجد في جارورك فقط إن لم يكن هناك عوامل تدخل خارجية، وإلا حصلت على نتيجة أُخرى، ليس لأن السارق كسر القوانين الطبيعية أو الحسابية (ربما كسر قوانين الدولة فقط)؛ فخلاصة الأمر أن التدخل الخارجي قادر على تغيير الواقع الذي تعرفه، ليس بمعنى كسر قوانين الطبيعة، ذلك أن تلك القوانين بحد ذاتها لا تأخذ بالحسبان عوامل التدخل الخارجية والفائقة للطبيعة، وفي حالتنا، إننا ندعو ذلك التدخل الخارق للطبيعة معجزة.

وكما ذكرنا آنفاً، لقد بات على كل لسان القول أن المسيحية والعلم هما في حالة حرب مستعرة، فمن أين بدأ الأمر وما أصل هذا الزعم؟ إن ما ننعم به اليوم من تقدم علمي غير مسبوق لهو وليد الثورة العلمية التي اضطرمت بين القرنين 16 و 17، أرخى أول أشعتها العالم نيكولاس كوبرنيكوس (Nicholas Copernicus) في العام 1543 -وهو مسيحي ملتزم-، واقتفى أثره العالم المسيحي الملتزم كيبلر (Kepler) وجاليلو (Galileo) الذي بقي وفياً لكنيسته مدة حياته، والتي لم تنته بأن أحرقته الكنيسة، فهذه مجرد خديعة يروج لها البعض. نضيف إلى أولئك القادة العظيم نيوتن (Newton) الغنيّ عن التعريف، وروبرت بويل (Robert Boyle) أب الكيمياء الحديثة؛ كلاهما كانا كاتبين لاهوتيين مسيحيين استثنائيين. كما ترون، الغالبية العظمى من قادة الثورة العلمية، أمّ العلم الحديث، كانت من المسيحيين المخلصين لإيمانهم، ومنهم من كتب في اللاهوت أكثر مما كتب في العلم، ما يرسم إشارة استفهام كبيرة حول تلك الحرب الزائفة بين المسيحية والعلم.

بالإضافة لما سبق، إن انبثاق الثورة العلمية من المجتمعات المسيحية وبالأيدي المسيحية ليس من باب الصدفة؛ لقد شكلت المسيحية الحاضنة المناسبة التي تسمح للعلم أن يزدهر في أكنافها، وذلك للنقاط التالية:
  • تعلّم المسيحية أن الكون صالح وحسن وأن المادة ليست شراً، ولو كانت شراً لما نزع أحد إلى دراستها وتمحصيها. هذا التعليم المسيحي مستمد من الكتاب المقدس:  "(سفر التكوين 1: 31) ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا"؛
  • الكون في المسيحية خلقة الإله الواحد مصدر الحكمة والمنطق والنظام، فهو كون منظم ومنطقي، ما يشجّع على فحصه وإماطة اللثام عما فيه من نظام ومنطق، وإلا فلو كان نتيجةً عشوائية لعمليات غير موجّهة، فما الذي سيحفّز أحدهم أن يلهو في غياهب العشوائية والفوضى؟ إن هذه نقطة شديدة الأهمية؛
  • الكون في المسيحية ليس إلهي مقدس لا يمكن المساس به، أو مصمت أزلي أبدي لا يمكن فهمه؛
  • المسيحية لا تمنع السؤال وتشجّع على التفكير والتأمل، بخلاف بعض الأديان الأخرى؛
  • الإنسان نفسه صورة الرب الأسمى، وفهمه واستدلالاته المنطقية يمكن الاعتماد عليها، وهو قادر على سبر أغوار الأنظمة والنماذج الطبيعية، مما يزيد الثقة في إمكانيته أن ينتج علماً موثوقاً، وقدرته على صقل ذلك العلم وتحسينه. بالمقارنة مع الداروينية مثلاً، ولكي نسلّط الضوء على أهمية هذه النقطة التي قدمتها المسيحية وعززت بها نشوء العلوم، نورد هنا قولاً لداروين (Charles Darwin) أرسله لويليام غراهام (William Graham) في 3 تموز-يوليو عام 1881:
  "ولكن بعد ذلك يراودني دائماً ذلك الشك الفظيع فيما إذا كانت آراء وقناعات العقل البشري، الذي تطور من عقول الكائنات الأدنى، لها أي قيمة أو موثوقية. ألعلّ أحدهم سيثق بقناعات وآراء عقول القردة، إذا افترضنا وجود مثل تلك الأمور في عقولهم بالدرجة الأولى؟"
بعبارة أخرى، لقد لعبت الإيمانيات المسيحية دوراً مفتاحياً في نشأة العلم وترعرعه، ما يعبّر عنه الفيسلوف والمؤرخ وعالم الآثار آر جي كولينغوود (R. G. Collingwood) بقوله [3]:
"إن الافتراضات المسبقة التي تشكل الإيمان الكاثوليكي (المسيحي)، والتي حُفظت لقرون من الزمان بوساطة المؤسسات الدينية المسيحية، كانت وفقاً للحقيقة التاريخية الافتراضات الأساسية والجوهرية للعلم الطبيعي منذ ذلك الحين" آر جي كولينغوود (R. G. Collingwood) - فيلسوف ومؤرخ وعالم آثار.


بعد احتدام الثورة العلمية، أشار ثاكستون وبيرسي (Thaxton and Pearcey) في كتابهما روح العلم (The Soul of Science) إلى أن العلاقة بين العلم والدين (المسيحي) وُصفَت ولأكثر من 300 عام (بين 1500 و 1800) بكونها علاقة تحالف [4]. وفي القرنين 18 و 19، كان العلماء عادةً من المؤمنين المسيحيين، أمثال كلفن (Kelvin) وماكسويل (Maxwell) وفاراداي (Faraday)، كما أن أعظم علماء القرن 20 كانوا مسيحيين كذلك. جدير بالذكر أنه لم تُستخدم كلمة عالِم (scientist) إلا حتى العام 1834، إذ كان من يعرف بالعالم حالياً يدعى فيلسوفاً طبيعياً آنذاك.

حتى عند طرح نظرية التطور، رفضها بعض العلماء بدايةً وقبلها بعضهم الآخر، وكان الأمر كذاك بين أوساط اللاهوتيين، وقد يفاجئ القارئ أن يعلم أنه بحلول العام 1885 اعتُبر التطور والإيمان المسيحي متوافقين من قبل معظم المسيحيين المتعلمين، وذلك بحسب المؤرخ البريطاني أوين تشادويك (Owen Chadwick) [5]، ونحن لا نورد ذلك لنقول بأن التطور متوافق مع الخلق، ولكن لنشير إلى مدى هشاشة الادعاء القائل بأن المسيحية تضادّ العلم وتحاربه وتقمعه بشكل أعمى.

رغم ذلك، شهدت أواخر القرن 19 استهلال فكرة الحرب المزعومة بين العلم والمسيحية: تلك الفكرة المعاصرة إذاً هي ليست إلا فكرة حديثة نسبياً، وقد أسس لها بالفعل مفكرون علمانيون سعوا إلى تقويض السيادة الثقافية للمسيحية في الغرب، وأرادوا استبدالها بمذهب الطبيعيّة الذي يعلّم بأنّه ما من أمر حقيقيّ خارج الطبيعة، ولا سبيل لاكتشاف الحقيقة إلا بالعلم وحده.

في العام 1896، نشر أندرو ديكسون وايت (Andrew Dickson White)، رئيس جامعة كورنيل (Cornell) آنذاك، كتاباً بعنوان "تاريخ حرب العلم مع اللاهوت في المسيحية" (A History of the Warfare of Science with Theology in Christendom)، وبتأثير وايت وكتابه، استُخدم مصطلح الحرب لوصف العلاقة بين العلم والمسيحية في النصف الأول من القرن العشرين. نتيجةً لذلك، شاعت هذه الفكرة في الثقافة الغربية حتى بين المسيحيين أنفسهم، واعتُبر العلم والمسيحية نقيضين بدلاً عن حليفين متعاونين في البحث عن الحقيقة والحق، كما سبقنا وأشرنا.

إلّا أن تلك الفكرة السطحية لم تمرّ مرور الكرام، فقد أدرك فلاسفة العلوم في النصف الثاني من القرن العشرين أن تصوير المسيحية والعلم في حالة حرب مستعرة ليس إلا مغالاة وتبسيطاً مبالغاً به للواقع. يواجه العلم خلال سبره للكون أسئلة مستعصية ذات طبيعة فلسفية لا يمكن فك غموضها علمياً فقط، وإزاءها يمكن للمنظور اللاهوتي أن يلقي الضوء على بعض مكنوناتها. في نفس الوقت، باطل هو اعتبار كل ما يدلي به دينٌ ما عن العالم زائف وخاطئ، ولكن لكثرة أديان العالم وزور كمّها الأكبر، تتناقض ادعاءاتها بين بعضها البعض حول أصل الوجود وطبيعة الكون والإنسانية، لذا لا يمكن أن تكون كلها صحيحة. مما سبق يمكن أن نشبه العلاقة بين العلم والدين (المسيحي) على أنها علاقة متداخلة بشكل جزئي، وليست متناقضة.

العلاقة بين العلم والدين المسيحي تتضمن التعاون والتداخل، وليست عبارة عن حرب وتناقض.
هذا التداخل بين العلم والدين والذي أدركه الأكاديميون والباحثون بشكل ملموس دفع بالعديد من الهيئات والمجتمعات والمجلات والجامعات إلى تحفيز الحوار والتعاون بين العلم واللاهوت:
  • من تلك الهيئات:
    • The European Society for the Study of Science and Theology
    • The Science and Religion Forum
    • The Berkeley Centre for Theology and Natural Science
  • والمجلات المختصة:
    • Zygon
    • Perspectives on Science and Christian Faith
  • والمجلات العلمانية:
    • Nature
    • The British Journal for the Philosophy of Science
  • والجامعات التي أسست كراسي خاصة للعلم والدين:
    • Cambridge University
    • Oxford University

كلا العلم والمسيحية معنيّان بالحقيقة والحق بدرجات متفاوتة، ولكنهما يقدمان الأجوبة لمجموعتين مختلفتين جداً من الأسئلة [6]. فيما يتعقب العلم تاريخ الكون بدءاً بتشكل المجرات وتشكُّل العناصر الكيميائية في أجسام النجوم، وصولاً إلى دراسة الحياة المعقدة والمتعضيات، لا يهتم اللاهوت المسيحي بتفسير الآليات الحياتية والطبيعية للسلوك المادي، بل بطيف آخر من الأسئلة المهمة: ما هي العلّة الأولى لوجود الكون؟ من يضبط العالم المادي، أم هل هو ذاتي الضبط؟ ما معنى وغاية الحياة الإنسانية؟ وما على شاكلتها من الأسئلة الميتافيزيقية والروحانية التي لا تلقى صدىً ضمن نطاق العلم.

يمكننا باختصار تلخيص العلاقة بين العلم والدين بالبنود التالية [7]، والتي يمكن أن نستفيض فيها في مقال آخر:
  • يوسّد الدين المنظومة المفاهيمية التي تمهّد الطريق أمام العلم ليزدهر فيها؛
  • يستطيع العلم أن يفنّد أو يؤكّد ادعاءات الدين أحياناً؛
  • إذ يواجه العلم مشاكل ميتافيزيقية في خضمّ عمله، يقدّم الدين يد العون في سبيل تفطّنها وحلّها؛
  • يساهم الدين في الحكم بين النظريات العلمية؛
  • يساعد الدين على تعزيز القدرة التفسيرية للعلم.
فماذا نقول ختاماً؟ إن الذين يتغنّون بفكرة أن العلم والدين (المسيحي) نقيضين لا علاقة إيجابية بينهما عليهم أن يدركوا أن القطار فاتهم، وهو يتقدّم مسرعاً ولا بادرة على تخامد زخمه على المدى المنظور. لقد فطن المجتمع الأكاديمي والعلمي -من جديد- أن للعلم والدين (المسيحي) اهتمامات مشتركة وكل منهما لديه ما يقدمه ليدعم الآخر (فالعلم ليس فقط لا يناقض المسيحية، بل يعززها ويشير إليها). نعم، لن يحبّ العديدُ هذا الأمر، ومن كذاك يستطيع بالطبع ألا يشارك في الحوار والتعاون القائم بين العلم والمسيحية، إلا أنه لن يخمد ذلك التحالف الذي كان موجوداً منذ البداية عند نشأة العلوم الحديثة، ولن يسهم في تصويره على أنه غير ذي جدوى.

"إن الزيف القائل بأن العلم تطلبَ هزيمة الدين تم تبنيه من قبل بعض الأشخاص الذين هللوا له، كفولتيير (Voltaire) وجيبون (Gibbon)، بعد أن نصّبوا أنفسهم بأنفسهم لهذا الأمر، حيث لم يلعبوا أي دور في العمل العلمي" آر ستارك (R. Stark) - عالم اجتماع مختص بالأديان وبروفيسور لعلم الاجتماع ومقارنة الأديان [8].


"في العديد من الخلافات التي تم تحليلها تقليدياً تحت ضوء العلاقة النظرية بين العلم والدين، يتبيّن أن القضايا التي تقوم عليها تلك الجدالات ليست متعلقة بالعلم ولا بالدين من حيث المبدأ، ولا بالعلاقة بين الدين والعلم. إنها بالحري إشكاليات اجتماعية أو أخلاقية أو سياسية، انخرطت فيها السلطة العلمية أو الدينية أو كلاهما في الغالب، بغية الدفاع عن وجهة نظر معينة على أصعدة أخرى.." جي إتش بروك (J. H. Brooke) - مؤرخ للعلم متخصص في العلاقة بين العلم والدين [9].

2018-05-13

تسعة من القوانين والحقائق التي تناقض التطور

نظرية التطور، النظرية التي تكتنف بين طيّاتها وفرةً من الثغرات والتناقضات العلمية، هي واحدة من أكبر الخدع التي مرت في التاريخ المعاصر، ولكن وللأسف إننا نجد الكثير ممن يعتبرون هذه "النظرية" حقيقة علمية تم إثباتها، مع أن هذا الأمر لم يحدث، فهل هي على هذا القدر من المصداقية؟
لابد أن نعي تماماً أننا أمام نظرية تنتابها العديد من المشاكل، وأن نفهم الفرق بين ما هو حقيقة وما هو نظرية بالتعريف، والعلم الصحيح السليم يجب أن يكون مبنياً على الحقائق، والدلائل، و المُثبتات.

سنقدم 9 حقائق وبراهين وقوانين علمية تناقض ما يُدعى نظرية التطور، وتشير لكونها مجرد واحدة من أكبر الخدع الزائفة التي مرت في عصرنا الحديث، ومن المهم أن نتذكر كون القوانين العلمية أعلى مستوىً من النظريات العلمية، أي أن القوانين العلمية المبرهنة تسمو فوق نظرية أي أحد، إذ أنها برهنت وأثبتت مبادىء علمية هامة لا يمكن تغييرها.
[كملحوظة على الهامش:نؤكد أننا لا نناقش التكيّف هنا، والذي لا يخرج عن نطاق النوع الواحد، بل ما يدعى التطور Macro-Evolution]

1- قوانين الترموديناميك ونظرية الفوضى Chaos:
يصرّح وبوضوح ما يُعرف بقانون الأنتروبية بأن كل شيء يتحرك من حالة الانتظام إلى حالة اللاانتظام، وبعبارة أُخرى، إن كل شيء يتدهور ويتراجع، سواء المواد أم المتعضّيات فكلها تتقادم وتبلى، لتتغير حالتها من النماذج المنتظمة والبنى الذرّية المهيكلة إلى حالة غير منتظمة في الكون. يرتبط هذا القانون بنظرية الفوضى، حيث نرى أدلة تجريبية وعملية واضحة لها، كاحتراق النجوم وتناقص طاقتها تدريجياً، واصطدام المذنبات بالكواكب، وغيرها مما يؤكد حالة اللانظام النهائية التي يسير إليها الكون.
وعلى ضوء تلك القوانين العلمية والأدلة المثبتة، تأتي نظرية التطور لتخبرنا بأن كل شيء "يتحسّن" أو "يزداد انتظاماً"، وأن الكون يتطوّر وينتظم مع الزمن، وهذا خطأ علمي يناقض قوانين الأنتروبية ونظرية الفوضى والأدلة التجريبية العملية أجمع! فالبنى الذرية تتحطّم ولا تنتظم، والكون يتقادَم ولا يتطوّر، والإلكترونات تتباطأ تدريجياً في حركتها وليس العكس، والعناصر تبلى رويداً رويداً، وبوضع مجموعة الحقائق تلك في الحسبان، يضحى واضحاً للإنسان العاقل الصادق أن كل شيء ينحدر إلى حالة عدم انتظام وليس إلى حالة انتظام، وبدلاً من الاعتقاد بأن الكون يتطور، هو في الحقيقة يتدهور.

2- قوانين نيوتن في الحركة وقانون السببية Causality:
إن قانون نيوتن الأول، أو ما يُعرف بقانون العطالة Inertia، يقول بأن الجسم الساكن يبقى ساكناً ما لم تؤثّر عليه قوة خارجية تحرّكه، فيؤكّد بأن أي شيء في حالة عطالة عن الحركة سوف يبقى على هذه الحال، فإن كانت سرعته صفراً فسوف تبقى صفراً في حال غياب أي تأثير خارجي. وكمثال نطرح حالة دوران الأرض حول محورها، فوفقاً لقانون نيوتن الأول في الحركة، لابد من قوة خارجية أثرت على الكرة الأرضية ودفعتها للدوران حول محورها.
وأما قانون نيوتن الثاني، فهو مرتبط بالقانون الأول، ويقول بأنه إذا أثرت قوة على جسم ما أكسبته سرعة تتناسب طرداً مع القوة المؤثرة، وعكساً مع كتلة الجسم، حيث يعبّر عنها بالقانون (ك × تع) حيث "ك" هي كتلة الجسم و "تع" هو التسارع (F = M.A)، بما يعني كون مقدار القوة المؤثرة على الجسم مساوية لجداء كتلته في تسارعه.

يلاحظ القارىء الفطن أن كلاً من قانوني نيوتن في الحركة يتعارض مع ما يدعى نظرية التطوّر، والتي تنطوي على ادّعاء علمائها التطوريين أن الكون أتى إلى الوجود بالصدفة العشوائية ومن الفراغ والعدم. إن حركة الكون ليست من عدم ولا من صدف، بل هي ووفقاً للقوانين العلمية المذكورة نتاج شيء ما –أو شخص ما- أثر بها على الكون وعناصره. فقانون نيوتن الأول (قانون العطالة) يتعارض مع الاعتقاد التطوري القائل بأن الكواكب والمجرات انتظمت من لاقوّة ولافعل أي من عدم، وبدون أي أشعة سرعة ابتدائية (سر0) طُبّقت على الكون. بمزيد من الإيضاح، اللاقوّة لن تعطي إلا لاقوّة، إلا بوجود قوة خارجية (عن الكون) أنتجت تأثير الحركة، وتلك القوة المسببة (السبب) يجب أن تكون هائلة في بلاشك، بالمقدار الذي تكفي معه لإيجاد الكون والتأثير على كل كواكبه المتحركة، وفي العلم الصحيح السليم، لكل ما يحدث سبب (قانون السببية Causality).

في ضوء تلك الخطوط العلمية، فإن العديد من العلماء يعتقدون بحدوث انفجارٍ كبير أعطى الكون الحالي، ليس فقط بسبب قوانين نيوتن للحركة وقانون السببية، بل أيضاً بسبب ما لدينا من أدلة علمية تجريبية ملموسة في الكون. وهذا تغيير مفصلي في العالم العلمي لصالح المسيحية، لأنه ومنذ بضعة سنين فقط، كانت نظرية من قبيل الانفجار الكبير تعتبر نظرية مسيحية سخيفة، للاعتقاد الذي كان سائداً بأن الكون أزلي ليس لوجوده بداية، ونذكر من تلك الأدلة الملموسة التوهج الإشعاعي اللاحق الذي اكتشفته ناسا، والتموّجات الحرارية المنتشرة عبر الكون، إلى جانب اكتشاف هابل لحقيقة تمدد الكون وتوسّعه تدريجياً مع الزمن.
ومنه، فمن المنطقي جداً أن للكون بداية، وإن كانت بدايته بالانفجار الكبير، فمن المنطقي جداً أن للانفجار الكبير مسبباً خارجياً فائق القوة –كائن فائق القوة- وضع الكون في حالة الوجود المتحرّك، ولن نتطرّأ إلى مدى دقة قوانين هذا الكون وضبطها الشديد بإتقان يسمح بوجود حياة معقدة، مما يدعم التصميم الذكي للكون.

ومن المثير للدهشة، أن ما من أحد يستطيع الإجابة على سؤال كيف بدأت الأرض بالدوران حول محورها، أي تفسير مصدر سرعتها الابتدائية التي دارت بها، والتعليل الذي قد يقدمه العلماء لا يعدو كونه مجرد تبرير، يقول بأنها كانت دوماً في هذه الحالة دون بداية، مما يتعارض وقوانين نيوتن في الحركة، وبخاصة قانون العطالة، فمن الواضح أنها إن كانت تدور حول محورها بسرعة ما، فلا بد أنها تأثرت بقوة خارجية (أو بمحصلة قوى خارجية) دفعتها إلى تلك الحركة.

3-  ثبات نوع الكائنات بوساطة الحمض النووي DNA:
من المستحيل علمياً، وإحصائياً، وعلى المستوى المجهري أن تتطور سحليّة ما إلى إنسان بالصدفة، أي بآلافٍ من عمليات تحول عشوائي غير موجّه مع الزمن. إن أردنا أن نتكلم في العلم الصحيح، فلا وجود أبداً للتداخل بين الكائنات الحية، فسمكة القرش لن تعطي بأي حال من الأحوال سمكة دولفين، ذلك أن كل نوع من الأحياء تم تثبيته وحفظه بترميز الدنا (DNA) المجهري الخاص به، ناهيك عن الاستحالة العلمية الكامنة وراء تدخل تراميز الدنا مصادفةً مع تراميز نوع آخر أو لتشكيل نوع آخر. وبعد كل هذا، يمكن علمياً البت بعدم إمكانية تحدّر البشر من أنواع حية أخرى (كالغوريلا مثلاً)، نتيجة لتثبيت النوع البشري عبر الدنا الخاص به، ومن الواضح استحالة نتوج نوع حي جديد (غير بشري) من البشر. هذا وإنه لو نظرنا عبرعلوم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية إلى التطوّر، لوجدنا عقبة كبيرة وعسرة أمامه، تتمثل بحقيقة كون الدنا البشري مبرمج حصرياً لكي يوصّف الكائن البشري، فكل نوع يتكاثر كنوعه وجنسه فقط، لا غير.

4- دليل التتبع الجيني للبشر:
قام المجتمع العلمي مؤخراً بتتبع تراميز الدنا البشرية تدريجياً، وانتهوا في تتبعهم هذا إلى امرأة واحدة أفريقية، وأمام هذه الحقيقة المثيرة للاهتمام، دعوا تلك المرأة التي تمثل أم البشر بـ"حواء الميتوكوندريّة" (mitochondrial Eve)، والميتوكوندريا هو ما يحمل الدنا ضمن الخلية البشرية. وأما عن الزمن الذي عاشت فيه حواء الميتوكوندريّة فهو لا يبعد أكثر من6000 عاماً مضت، وهذا يناقض خدعة ملايين السنين التي يتشدق بها أنصار التطور وغيرهم، كما اكتُشف أيضاً أن البشر بدأوا بالتكاثر منذ ذلك الوقت فقط، لا قبل، مما دعى بالعلماء إلى مراجعة حساباتهم الزمنية المختصة بوقت ظهور البشر وتعديلها من جديد، فبدلاً من ملايين السنين المزعومة، أو حتى مئات آلاف السنين، بات واضحاً أن البشر لم يسكنوا الأرض سوى مؤخراً نسبياً .

وبشكل فجائي، يتوقف التتبع الجيني للبشر عند تلك المرأة، ولا يمكن تتبع أي قدر من الدنا البشري إلى ما قبلها، ولا حتى بالاستعانة بتشكيلة واسعة من الأنواع الحية دون تمييز، في محاولة لتلمّس كون البشر قد تحدّروا من أي منها، بما فيها القرود، الشراغيف، الأميبا، الزواحف، و أنواع أُخرى. بعبارة أخرى أوضح وأجمل وقعاً: بما أن التتبع الجيني البشري يقف عند ذلك الحد، مع تلك المرأة التي تعود إلى 6000 سنة مضت لا أكثر، فما من أي برهان علمي على وجود البشر قبل تلك الفترة.

رغم كل ما سبق، يبقى في التطوريين إيمانٌ أعمى بوجود حشد وفير من الانتقالات الحادثة في مرحلة ما بين البشر والزواحف، إلا أن منهم من يعترف بالنهاية بأن لا برهان علمي على حدوث أي من تلك التبدلات "الوافرة"، وبإصرارهم على الوثوق بما يرجون، لا نكون في خضمّ علم مثبت سليم، بل في غياهب إيمان أعمى لا دليل له، فالعلم بالتعريف يستند إلى الحقائق والمنطق والبيانات والأدلة القوية، وليس على الفجوات المرجوّة، أو على ملايين الحلقات المفقودة في الأدلة والسجلات الأُحفوريّة وخرائط الدنا، والفرق واضح وجلي بين ما هو صحيح وما هو مُعتقَد، فلا يمكن للمرء أن يتشبّث بنظرية دون براهين علمية تدعمها، لا بل مع براهين علمية تنقضها، وإلا كان مؤمناً بعمى بذلك الأمر، وليس عالماً، أو أنه ينتمي إلى عقيدة أو ثقافة ما لها غاياتها.
التطور :  رفض الحقائق
قسر التطوّر في المدارس وتلقينه للطلاب
5- الطفرات وماهيتها:
الطفرة تعريفاً وعملياً وتجربيياً، هي حدث سلبي بالنسبة للكائن الحي، وليس إيجابي، فما أثبته العلم كونُ الطفرات سبباً لأمراضٍ وتشوهاتٍ بالغة في الكائن الحي، تصل في سوئها إلى قتله، لا إلى تطوره وتحسينه جينياً! وبلغة البيولوجيا، فإن الطفرات تنتج من تغير سلبي في الكائن الحي، وتؤدي إلى عاقبة جينية سلبية بالنسبة إلى الكائن الحي، وهي وراء أسوأ الأمراض التي عرفها الإنسان. أما ما نراه من تغييرات إيجابية في حياة المتعضّيات لا تسبب لها عموماً ضرراً جينياً، فهذا يُدعى "تكيّف" وليس تطوّر، وحدوده لاتتعدى بأي حال النوع الحي الواحد، ولا يؤدي إلى إيجاد نوع حي جديد من آخر.

نأتي الآن إلى أقوال التطوريين في هذه الجزئية، فهم يقولون بأن الدنا البشري يتبدل تدريجياً بالطفرات إلى أن يصل إلى نوع جديد أعلى وأرقى من البشر. وعلى مبدأ "من كلامك أدينك"، لو كان البشر قد تطوروا منذ ملايين السنين، فإن ملايين السنين التي خلت كافية ليظهر معها اليوم الصنف البشري خارق الذكاء والمتطور عن الإنسان، وهذا بدون شك لم يحدث، ناهيك عن كون هذا الادعاء تناقضاً مع الدليل العلمي المبيّن لمدى سلبية ورداءة تأثيرات الطفرات بالنسبة للكائنات الحية مع الزمن، هذا كله إن اعتبرنا أن الدنا البشري سيسمح بمثل تلك الطفرات المتكررة، لأنه لن يفعل.

في الحقيقة، لدى كل خلية حية مستودعاً من الآليات المعدِّلة بغية تصحيح أي أخطاء وتغييرات قد تطرأ أثناء تضاعفات الدنا، من ضمنها ما تقوم به بروتينات خاصة تشبه جيشاً من الآلات الفاحصة لتسلسل الدنا في إطار سعيها لمنع أي طفرة من الحدوث، وأمام هذا الجيش، تنهار حصون التطور الهشّة التي تعتمد على حدوث الطفرات كآليات تطوّرية في الأحياء، فمن الجلي علمياً أن تلك التغيرات المميتة الشذوذيّة ليست تطوّرية ولا تحسينيّة ولا آلية منتهجة في الأحياء. أضف إلى ذلك، يخبرنا العلماء عن إجرائية معروفة تدعى "الجرف الجيني- genetic drift" أو "الأنتروبية الجينية – genetic entropy"، و التي تقول أنه وبمرور الزمن ومع تراكم الطفرات في ذريّة الأنواع الحيّة فإن تلك الأنواع سوف تنقرض. بعبارة أوضح، قرد التطوريين سوف يكون منقرضاً الآن لما طرأ عليه من طفرات بحسب زعمهم، ولَإنه من الأصدق والأصح القول بأن الطفرات هي تدهور في النوع الحي، ليس لما تحدثه من كوارث ضمن المتعضيات فحسب، بل لأنها ممنوعة داخل الخلايا من قبل البروتينات المصححة لأي اختلالات قد تحدث في الدنا.
وكخلاصة لما سبق، ما نراه من طفرات يسبب في الغالبية العظمى من الحالات أمراضاً وكوارث للأنواع الحية، ويفضي إلى تشوهات تنتهي بإبادة النوع الحي في النهاية، ولعل من الجدير بالذكر ما بين حدوث الطفرات وقانون الأنتروبية من ترابط، فكل شيء يتدهور ويبلى.

6- فجوات السجلات الأحفورية:
يدعي التطوريون أن لهم دليلاً على التطور، مخفياً بين طيات مليارات السنين المفقودة في السجلات الأحفورية، وهذا الادعاء يكافىء القول: " لا دليل لدينا، ولكننا نرجو ونؤمن بوجوده"! فتلك الفجوات المفقودة عبر مليارات السنين لا تثبت أي شيء فيما يخص التطور، سواء بتحدرنا من الزواحف أو بتطورنا من وحيدات الخلايا إلى أشباه القرود، وما من أحد عبر التاريخ البشري كله تمكّن من برهان هكذا ادّعاء فارغ، إلا أن أصحابنا التطوريون مصرون على كون تلك الانتقالات حادثة لامحالى، ولو لم نجد لها أي دليل علمي! إذاً لا يجب أن ندعو التطوّر علماً، بل حدساً أو تخمين. ومنه، ما من دليل أياً كان لإثبات ما في تلك الفجوات الأحفورية ملياريّة السنين، ونحن أمام واحد من أكبر الأخطاء والتخبطات العلمية في التاريخ.

7- طرق التأريخ الكربوني غير الموثوقة:
قام العلماء بقياس عمر جلود الحيتان بالاعتماد على الكربون، ووفقاً لنتائج تلك المنهجية كانت أعمار الجلود المدروسة مئاتٍ من السنين! ذلك أن طرق الكربون في قياس الأعمار والتأريخ ليست دقيقة فيما يخص قياس أعمار الأشياء، لاسيّما إذا تعلق الأمر بالكرة الأرضية. فكرة طريقة الكربون في التأريخ تقوم على قياس درجة التقادم والاضمحلال في الشيء للوصول إلى عمره، إلا أن هذه الفكرة مغلوطة بالنظر إلى أن المواد تبلى بدرجات متفاوتة، بعضها أسرع من الآخر وبعضها أبطأ، كما أن سرعة التقادم والفساد تختلف بين المتعضيات الحية والمتعضيات غير الحية، وكمثال على ذلك، فإن أشجار الريدوود "redwood" لا تحيا (تبقى بدون فساد) لأكثر من مئة عام، بينما الصخور تبقى صامدة لآلاف السنين. إلى جانب ذلك، إنه لمن غير المنطقي أن تعتمد على طرق الكربون C-14 في تحديد عمر الأرض التي لا تتوقف عن التغيّر، وفي تغيّرها هذا تؤثر على مستويات الكربون C-14 نفسها، مثل ما ينتج عن الإشعاعات والأحداث الكارثية والتبدلات في الحقل المغناطيسي الأرضي وغيرها من العوامل، فكيف يمكن أن تعتمد على مقياسٍ يقوم على مبدأ مغلوط في آلية عمله من أجل قياس أشياء تملك إمكانية التأثير على ذلك المقياس بالعديد من عواملها؟ بالتأكيد لن يكون ذلك تصرفاً موثوقاً.

8- تنظيمات المعلومات المعقّدة:
إن توخينا المنهجية العلمية والإحصائية، يغدو من عدم المنطق ومن السخافة بمكان أن ندعي انبثاق الانتظام من الفوضى واللاانتظام، فمن المستحيل أن نصل إلى ما بين يدينا من بنى معلوماتية منتظمة عن طريق العشوائية أو قيامها هي بتنظيم نفسها! وأما ما نقصده بتلك المعلومات الذكية المنظّمة فهو ترميز الدنا المكون من مليارات العناصر المعلوماتية (في كل خلية بشرية مثلاً لدينا 3 مليار محرف في سلسلة الدنا البشري)، وهو على درجة من التعقيد والتنظيم تتفّه كل من يرى بأنه نتاج عملية عشوائية غير موجّهة (صدفة)، أو من يعتقد بأنه نظّم نفسه بنفسه. لتقريب الاستحالة العلمية، من يدعي أن معلومات الدنا البشري محض صدفة أو محض عملية ذاتية لا أكثر، هو كمن يقول بأن شرائح الكومبيوتر فائقة التعقيد تجمّعت معاً بشكل غير موجّه أو جمّعت نفسها بنفسها وفق سلسلة من العمليات العشوائية، أو أن الرمازات المصدرية العائدة لنظام تشغيل ما كالويندوز 8 هي نتاج عمليات عشوائية غير موجّهة لا مصمم لها، فرمّاز الدنا البشري أشبه ما يكون ببرنامج يوصّف الكائن البشري الحي، وهذه الفكرة استحالة إحصائية وعلمية. لا يمكن للشرائح الحاسوبية أن تكون نتاج أنامل العشوائية والصدفة غير الموجّهة، فهي وبلا أدنى شك لها صانع ومصمم، فحيثما وُجد البِنَاء ينبغي أن بنّاءه موجود، وحيثما وُجد الذكاء ينبغي أن المصمم  الذكيّ موجود، فالذكاء والمعلومات ليسا من أبناء العشوائية واللاعقل واللاتوجيه على الإطلاق.

9- أدلة التصميم الذكي في الكون:
إن المؤشرات المنطقية التي تشير إلى المصمم الذكي ليست محصورة في خلايانا فحسب، بل هي ظاهرة وجلية وواضحة في النظام الكوني كله، والذي وفقه تدور وتتموضع وتتحرك الكواكب، بدءاً من الغلاف الجوي وحتى تصميم النظام الشمسي، مروراً بالمسافة المحكمة التي تفصل بين الأرض والشمس، والزاوية المحددة بعناية لكي ينحني بمقدارها محور الأرض عن الشاقول، والتكوين الكيميائي الدقيق لغلافنا الجوي، وتموضع القمر حول الأرض، وغيرها من الحقائق الكونية والذرية وخلاف ذلك، والتي لولاها لما كان للحياة المعقدة من فرصة في الظهور كما يخبرنا العلم (قد نناقش هذه الدلائل باستفاضة في مقال آخر).

وعلى سبيل المثال لا الحصر، إن كوكبنا الأرض، جوهرة الكون الزرقاء وأكرم حجارته، محمي من المذنبات والأجسام الكونية الخطرة بشكل فريد وفق آلية تموضع الكواكب وتحلّقها في نظامنا الشمسي، فالمشتري (جوبيتر) بحجمه الكبير وجاذبيته القوية يشد إليه الكتل المجريّة ويحيدها عن الوصول إلى مجال كوكبنا الصغير، وأما ما وصل منها فيخبرنا السطح البعيد للقمر بأنه تكفل بقدر كبير منها، لما نرى عليه من آثار الارتطامات والحفر.

ختاماً، إنه ليصعب أن نصدق بأن أي عالم صادق ومخلص سوف يعترف بنظرية التطور المريعة والتي أُثخنت بـ"ملايين السنين" من الفجوات والثغرات والتناقضات العلمية ، وحتى لو أراد المرء أن يحيد عن العلم ليؤمن بعقيدة التطور، وديانة القرد، فلعلها أسوأ ما يطالبك بإيمان أعمى مخالف للحقائق والوقائع والعلوم، وهناك من المستندات التاريخية الموثوقة ما يفوقها منطقية بكثير.
مثلاً، لدينا من الدلائل (بما فيهم الشهود العيان) ما يثبت حقائق الهولوكوست بما يفوق ما لدينا من دلائل لنظرية التطور الجوفاء، لا بل يوجد حقائق راسخة تعارض معتقدات التطوريين، وتصرخ بالتفاهة العلمية الكامنة في نظرية التطور، النظرية التي هي واحدة من أكبر خدع التاريخ المعاصر.

يتساءل المرء: لماذا يصر العلماء على التهافت على التطورية، والتشبث الأعمى بها، وتجاهل الأدلة الواقعية، ويصرون بعناد على طرحها في المدارس؟ قد يكون أحد التعاليل لهذه الخيانة العلمية أنهم قد اختاروا تجاهل البراهين الجلية الموجودة، لاتباع أجندة معينة تحذو بهم إلى الغدر بأمانتهم العلمية وتدريس نظرية جوفاء ركيكة غير موثوقة.

إن كان لابد أن تدرس هذه النظرية، فليشار إلى مدى الهشاشة التي فيها، ولتدرّس بجانبها البدائل المطروحة، ليكون العلم حيادياً وغير منساقاً وراء أي معتقد، وأقصد بالبديل رؤية التصميم الذكي للكون، أو رؤية الخلقيين، التي ترى أن الكون مصمم ومخلوق ومنظّم بطريقة لابد أن له مصمم، وإن كان هذا الأمر غير مقبول خاصة لأنه يدعم الكتاب المقدس في حقائقه، فإن كتابنا المقدس ليس كتاباً خرافياً بل هو وبكل ثقة كتاب مثبت تاريخياً وأثرياً، وهو الحق كلّه، يقف أمامه علماء الآثار بكل احترام، على حد تعبير الباحثين ومنهم الباحث الكتابي والبروفيسور ميلّير بورّوز.

أسفار موسى و تشريع حمورابي

تحت إشراف جاك دو مورغان، وفي الفترة الممتدة بين العامين 1901-1902م، اكتشفت البعثة الأثرية الفرنسية مجموعة قوانين حمورابي، الملك البابلي الذي حكم في الفترة 1795-1750 ق.م، في موقع سوسا القديم حيث إيران حالياً، حيث عثرت على مسلّة أو شاهدة ديوريت، بطول 2.25 متراً، وعليها 282 قانوناً منظومة في 12 مقطعاً، تشكل بمجملها تشريعات حمورابي وقوانينه، وتعد من أطول الكتابات القديمة المكتشفة وأكثرها أصالة، حيث ألقى ذلك التشريع وما يحتويه من تعقيد وشؤون متناوَلَة الضوء على الحضارة البابلية القديمة، ويرى العديد من الباحثين فيه تنقيحاً لقانون بابل الشائع وقتئذ.

شاهدة حمورابي
إله العدل البابلي شاماش يسلّم حمورابي التشريع

جاء هذا الاكتشاف بنفع كبير جداً للكتاب المقدس، ذلك أنه لاشى تماماً ما أُثير من انتقادات لمشككيه، والتي تدّعي بأن أسفار موسى الخمسة لا يمكن أن يكون كاتبها موسى، بحجة أن الكتابة لم تكن قد عُرفت بعد في حياة النبيّ، بل طُورت في سنين تلت وفاته بقدر ليس بضئيل؛ ولكن وأمام الحشد الوافر من الاكتشافات الأثرية المناقضة له، بما فيها تشريع حمورابي، بات ذلك الادعاء والهراء سواء.
نقرأ في كتاب Archaeology and Bible History
[Free, Joseph P. and Howard F. Vos [1992], Archaeology and Bible History 103, 55] :
" لقد سبق تشريع حمورابي زمن موسى (1500-1400 ق.م) بمئات السنين، حيث يعود إلى الفترة ما بين (2000-1700 ق.م)؛ وقد احتوى على قوانين متقدمة مشابهة لما في ناموس موسى، وعلى ضوء هذا الدليل الأثري، لا يمكن للمنتقدين أن يصرّوا على على كون كتابة موسى للناموس أمراً أحدث من أن يكون صحيحاً"
من بين العديد من الكتابات القديمة المكتشفة، أزال اكتشاف تشريع حمورابي الشك في كون الكتابة قد تمت ممارستها لمئات السنين قبل موسى، وكل من يصر على مثل هكذا ادعاء إما هو يبتغي الكذب أو هو ناقد مُضَلَّل يريد نقد الكتاب المقدس.

بعد أن انتفى الادعاء الوهمي الأول، لا زال المعاندون يسعون إلى التضليل، فأثاروا ادعاءاً جديداً يقول بأن موسى النبي نسخ واستعار من تشريع حمورابي، واستدلوا على ذلك من بعض التشابهات الواردة بين ناموس موسى (1440 ق.م) والتشريع المذكور، في محاولة للإشارة إلى أن حادثة جبل سيناء (خروج 34) والوحي الإلهي في كتابة الناموس مشكوك بأمرها.
نعم، إن الناموس والتشريع يحتويان بعض التشابهات، ونذكر منها:

عقوبة الإعدام:
في حالات الخطف والزنى (لاويين 20:10 و خروج 21:16) مع (القانونين 129 و14)؛
- بعض أمور الثأر والشجار:
" في حال نشب شجار وضرب رجل آخر فأنزل به ضرراً، يجب عليه أن يُقسم بأنه لم يؤذه عن عمد، ويدفع تكاليف طبابته للأطباء" (قانون 206 من تشريع حمورابي)
" 18وَإِذَا تَخَاصَمَ رَجُلاَنِ فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ بِحَجَرٍ أَوْ بِلَكْمَةٍ وَلَمْ يُقْتَلْ بَلْ سَقَطَ فِي الْفِرَاشِ، 19فَإِنْ قَامَ وَتَمَشَّى خَارِجًا عَلَى عُكَّازِهِ يَكُونُ الضَّارِبُ بَرِيئًا. إِلاَّ أَنَّهُ يُعَوِّضُ عُطْلَتَهُ، وَيُنْفِقُ عَلَى شِفَائِهِ" (خروج 21)
- التطاول على الأبوين:
" إن ضرب ابن أباه، تُقطع يداه" (قانون 195 من تشريع حمورابي)
"15مَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يُقْتَلُ قَتْلاً" (خروج 21)

إلا أن الغالبية العظمى من تلك التشابهات تنتهي عند النظر إلى المواضيع التي تتناولها القوانين المتشابهة، فالتفاصيل التي تحدد كيفية تولّي موضوع التشريع هي وفي معظم الحالات مختلفة، هذا إن لم نقل بأنها متباينة تماماً.
مثلاً، في أغلب الأحيان يشير ناقدي الكتاب المقدس إلى التشابه بين الناموس والتشريع في مبدأ الجزاء بالثواب أو العقاب، كما نرى في تشريع حمورابي:
فقرة 196) مبدأ العين بالعين
فقرة 197) مبدأ كسر عظم بكسر عظم
فقرة 199) مبدأ السنّ بالسنّ
ولكن علينا أن ننتبه إلى أن تشريع حمورابي كان يميّز بين عدة طبقات من الناس من حيث الجزاء : من وُلد حراً، من صار حُراً، ومن هو عبد؛ فالمجازاة بالتساوي كانت تتم للمولودين أحراراً فقط، وأما في حال كان المتضرر محرراً أو عبداً فتختلف الأحكام، حيث نرى أنك –وفق تشريع حمورابي- ملزم بدفع قطعة ذهبية واحدة (مينا Mina) للرجل المتضرر إن كان محرراً، ويصبح هذا السعر مساوٍ لنصف قيمة سعر العبد في حال كان المتضرر عبداً، ولا تُدفع هذه الجزية إلى العبد بل إلى سيد العبد المتضرر. وإلى جانب ذلك، لا نرى أي قانون يتناول حالة إصابة عبد ما بإصابة دائمة بين يدي سيده، بينما نرى ناموس موسى يقضي بحريّة ذلك العبد في مثل تلك الحالة (خروج 21 : 26-27)، وشتّان بين هذين القانونين "المتشابهين".

موسى النبي والوصايا العشر
رسم لموسى النبي

وبالمثل، فإنه يمكن إجراء العديد من المقارنات بين ناموس موسى وتشريعات حمورابي، وقلّة من تلك المقارنات تُظهر تطابقاً تاماً، إلا أن هذا لا يعني انتحال موسى تشريع حمورابي في الناموس، بل كل ما يعنيه أن السرقة والخطف والزنى هي مشاكل لأي مجتمع ولا بد من معالجتها وتولّيها، وحتى اليوم، فإن العديد من الدول حول العالم لها تشريعات متشابهة، ولكن من منا يقول بأن تلك التوازيات في التشريع تعني قيام الدول بالنقل والنسخ من بعضها؟
وبنفس المنطق، هل امتلاك كل من بابل وإسرائيل لقوانين مضادّة للقتل يعني بالضرورة أن أحدهما سرق الفكرة من الآخر؟ ألعل من المحظّر على دولة ما أن تحاكم القتلة إن كان لدولة أخرى قانوناً أو تشريعاً مماثلاً؟

على أننا ينبغي ألا ننسى وجود اختلافات كبيرة بين ناموس موسى وتشريع حمورابي، فناموس موسى فاق تشريع حمورابي بأشواط من حيث تأصّله في عبادة الرب، الذي هو فوق الكل وأهم من الكل. إن المبدأ الأخلاقي الذي تقوم عليه كتابات العهد القديم هو كون الإنسان قد خُلقَ على صورة الله ومثاله، الله الصالح المستقيم الذي يطالب كل البشر بحياة الصلاح والاستقامة إذ هم على صورته، مما يجعل ناموس موسى أسمى من مجرد تشريع قانوني فحسب، ليتناول موضوع الخطيئة والمسؤولية الملقاة على عاتق البشر من ناحية الرب الخالق، ولا نجد في كل تشريع حمورابي أي مشابه لمثل ذلك.

لقد تمحور تركيز تشريعات حمورابي على قضايا الجرائم والأحوال المدنية، والناظر إليها يرى ما كانت عليه من قسوة وشدّة وصلت إلى حد سنّ عقوبات وحشية، مما يجعلها أقرب إلى قوانين دراكو (مشرّع أثينا الأول في بلاد اليونان القديمة) من موسى.
وأما ناموس موسى، فإلى جانب العدل الذي توخّاه، نظّم قوانينَ روحانية وعرّف القداسة العامّة والخاصّة كذلك، مما جعله ينحو نحو التعامل مع سبب الجريمة لا فقط تبعاتها، مخالفاً بذلك حمورابي، ورفع من سوية الحياة البشرية، كما ويتّسم بنوع من الرحمة والشفقة إذا ما قورن بتشريع حمورابي، فالبعد الروحاني هو ما يميّز بشدّة الناموس الموسوي عن حمورابي.

في كتابه (Highlights of Archaeology in Bible Land)، يصرّح المؤلف فريد وايت Fred Wight قائلاً:
" يشدد الناموس الموسوي على اعتبار الخطيئة سبباً لسقوط وزوال الأمم، ومثل هذا الاهتمام منقوص بالكامل من تشريع حمورابي، فإن المبدأ الأساسي الأهم في ناموس الله المكتوب بالعبرية يُلخَّص بالآية الواردة في سفر (اللاويين 11 : 45)، والقائلة: فَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ، وإن نظرنا إلى تشريع البابليين لوجدناهم أبعد ما يكون عن مثل هكذا مبدأ"
إن قارنّا بين منظوري ناموس موسى وتشريع حمورابي، لرأينا اختلافاً مثيراً للغاية، فتركيز الثاني كان أفقياً، في حين كان تركيز الأول عمودياً، وفي هذا يقول مؤلف كتاب Archaeology and the Old Testament، عالم الآثار Alfred Hoerth:
" إن ناموس العهد القديم هو ناموس موَجّه بالدين، في حين أن التشريعات القديمة الأخرى مدنية فحسب؛ لقد اعتقد شعب ما بين النهرين بأن شاماش إله العدل كان قد أعطى حمورابي تشريعه من أجل أن يتعايش الناس مع بعضهم البعض، في حين أن الناموس أُعطي لكي يحيا الناس مع الله بالدرجة الأولى"
ومنه، فإن تشديد الناموس الموسوي الكبير على القيم والمسائل الروحية هو ما يميّزه عن كل التشريعات القديمة، فإن أكثر الوصايا روحانيةً في تشريع حمورابي لا تعدو كونها التصريح بقتل كل من يسرق من الآلهة، أضف إلى ذلك أن تشريع حمورابي لا يدلي بأي تصريح عن العفو والمغفرة، بخلاف الناموس الموسوي؛ ولئن وردت بعض التشابهات، كما قد يحدث بين أي نظامين تشريعيين، إلا أن هوّة الاختلافات الواسعة بينهما تشير إلى مدى سطحيّة القول بنسخ موسى لناموسه من تشريع حمورابي.
بعد كل ما سبق، باتت النظرية القائلة بأن ناموس موسى ليس هو إلا إعادة صياغة لتشريع حمورابي مرفوضةً على نحو واسع اليوم، خاصة بعد اكتشاف العديد من التشريعات الأخرى المشابهة والأقدم من تشريع حمورابي نفسه، كالقوانين المسمارية (2350 ق.م)، تشريع Urukagina في (2380 ق.م)، تشريع Ur-Nammu في (2050 ق.م)، وغيرها.

هذا وإنه لمن الصدق بمكان أن نعلل ما نجده من تشابهات بين ناموس موسى وتشريع حمورابي بكونه نتيجة تناقل المبادىء الأخلاقية والمدنية الإلهية شفوياً بواسطة الآباء، خاصة وأن العديد من النقّاد يتفقون بأن القوانين البابلية كانت معروفة جيداً ليهود عصر موسى، ومن الطبيعي أن تتم صياغة الناموس بلغة مألوفة ومعروفة لعبريي ذلك الوقت، فلا تثريب إن وردت بعض التشابهات في الألفاظ فيما يتعلق ببعض القوانين.

إلى جانب ذلك، إن الكثير من العادات والأعراف التي سنّها حمورابي توافق ما مارسه الآباء في الكتاب المقدس، فابراهيم عاش قبل زمن حمورابي بقليل، إلا أن ما أشار إليه في (تكوين 15 : 2-3) من كون لعازر الدمشقي هو مالك بيته وابن عبده سيكون وارثاً لابراهيم في حال لم يكن له ولد، موافق لما شرّعه حمورابي فيما يخص التبنّي، إلى جانب العديد من الكتابات القديمة، كألواح النوزي Nuzi، فهل أثّر تشريع حمورابي على ابراهيم؟
ألواح النوزي
ألواح النوزي

ومن تلك العادات أيضاً، عادة إنجاب الأولاد من الجواري، كما فعلت سارة امرأة ابراهيم في (تكوين 16 : 1)،  وراحيل امرأة يعقوب (تكوين 30 : 1)، وليئة امرأة يعقوب أيضاً (تكوين 30 : 9)، وهي أعراف موافقة لثقافة تلك المنطقة وموثقة في تشريع حمورابي (قوانين 144 و 146)، ومن الواضح مما نراه في تشريع حمورابي أن تلك الممارسات كانت شائعة قبل زمن حمورابي، وما فعله تشريع حمورابي هو حماية الأطراف المشاركة في مثل ذلك التصرّف فحسب.

نضيف إلى ذلك، عادة دفع مهر لأب العروس، فهي عند حمورابي واجبة عندما يغير العريس المستقبلي أو أب العريس رأيهما ويعدلان عن الزواج، وبرغم وجود بعض الاختلافات، إلا أن سفر التكوين يذكر عادة المهر بوضوح، سواء بما حمله العبد كبير بيت ابراهيم من خيرات سيده ودفعها إلى رفقة وأمها وأخيها، أو بما دفعه يعقوب إلى خاله لابان لقاء ليئة وراحيل من عمل، إذ لم يكن لديه من خيرات عمل سبع سنين تلتها سبع سنين أخرى كمهر.

ومجمل القول، لقد أدى اكتشاف تشريع حمورابي خدمة كبيرة للكتاب المقدس، وختم أفواه النقّاد القائلين بأن الكتابة لم تكن معروفة أيام موسى، في محاولة بائسة لدحض أصالة الأسفار الموسوية المكتوبة، وأما ما بينهما من تشابهات، باعتبارهما نظامين تشريعيين إلى حد ما، فلا وزن لها إذا ما فُحصت على ضوء الاختلافات الواسعة بين الناموس الموسوي والتشريع البابلي الحمورابيّ، وقد أسهبنا في تبيان سطحية وتفاهة أن يعلل أحدهم ما يراه من تشابهات بقوله أن موسى لجأ إلى حمورابي لصياغة الناموس.
[ المصادر : 1 ، 2 ]

المسيحية والوثنية: دليلك الدفاعي الشامل

تكفيك نقرة صغيرة على غوغل أو على أي محرك بحث آخر، لترى كم انتشرت نظريات الأصول الوثنية الأسطورية للمسيحية بين الناس، وهي نظريات تقوم في مبدأها على نفي أصالة المسيحية باعتبارها إعادة صياغة للأفكار الدينية الوثنية الخرافية التي سبقتها، فمنهم من يقول بأن المسيح ليس إلا اسم آخر لفيشنو الإله الهندوسي المتجسد، ومنهم من يقول بأن المسيح هو صورة أُخرى لأتيس الوثن الروماني، أو لحورس الإله المصري، أو أن المسيحية هي إعادة تشكيل للميثراوية، وغيرها من الادعاءات الفاشلة والتافهة للغاية، والتي في نيتنا أن نفرد لكل منها مقال مفصل للرد عليها تماماً وكشف عريها المخزي عن الصحة، إلا أننا سوف نقدم في هذا المقال دليلاً عاماً شاملاً لما يجب أن نضعه في الحسبان أمام كل ادعاء يقول بأن المسيحية ليست إلا ديانة وثنية ما بنكهة جديدة.


إن أردنا أن نسرد القضايا المنطقية البحثية، والتي تضعف كل ادعاء بكون المسيحية ديانة خرافية أسطورية في أسسها وإيمانياتها الجوهرية، فهي ووفقاً للدكتور رونالد ناش (Ronald Nash) كالتالي:


1-   إن كل الادعاءات التي تُقدَم في سبيل إثبات سرقة المسيحية من الأديان الأخرى لهي مغالطة منطقية واضحة، تُقترف كلّما استنتج أحدهم أنه بمجرد حدوث أمرين جنباً إلى جنب فلا بدّ أن أحدهما سبّب الآخر، بينما بشكل عام لا تُحتّم الصدفة المحضة في حدوث أمرين معاً وجود علاقة سببية بينهما، ولا يحتّم وجود التشابه بين الأمرين اعتماد أحدهما على الآخر؛


2-   العديد من ادعاءات التشابه بين المسيحية والأديان والأساطير الأخرى تم طرحها بشكل مبالغ فيه وصل إلى حد التلفيق في بعض الأحيان، ذلك أن الباحثين شرحوا الشعائر الوثنية باستعمال لغة المسيحية نفسها وتعابيرها، فأتت تلك الشروحات غير متقنة ولا دقيقة، وبسببها ابتعدنا عن الدقة إلى درجة معها نستطيع أن نتكلم عن عشاءٍ أخير في الميثراوية الفارسية، أو عن المعمودية في دين إزيس الإله الوثن المصري. إنه لَتَصرف تافه وغير مقبول أن نستعير مثلاً لفظة "مخلّص" من كتاب العهد الجديد، بكل ما تحمله من مفاهيم ودلالات مسيحية، ونسقطها على آلهة وثنية من قبيل أوزيريس أو أتّيس، ليبدو الأمر وكأنهم آلهة مخلِّصين بنفس المعاني والدلالات والمفاهيم الّتي كان بها يسوع المسيح مخلصاً للبشرية؛


3-   مثل هذه الادعاءات تنطوي على مغالطة تاريخية وخطأ تسلسلي زمني، ذلك أن الغالبية العظمى من مصادر معلوماتنا عن الأديان الوثنية، والتي يُدّعى بأنها أثرت على المسيحية الأولى، تؤرخ إلى وقت متأخر جداً. فعادةً ما نرى الكتّاب يحاولون إقناعنا بأن بولس الرسول تأثر بالشعائر الوثنية اعتماداً على مصادر تعقب الرسول بولس بثلاثة قرون. وأما إن اعتقدنا أن حالة شعائر الأديان الوثنية التي نجدها في القرن الثالث أو الرابع الميلادي هي نفسها ما كانت عليه في القرن الأول الميلادي، فنحن أمام افتراض غير مقبول؛


4-   من المستبعد جداً أن يقوم بولس الرسول عمداً بالاستعارة من الأديان الوثنية، فكل ما لدينا من معلومات عنه تجعلنا نستبعد وبشكل كبير تأُثره بالمصادر الوثنية بأي حال من الأحوال. فنحن نتكلم عن شخص يهودي فريسي متشدد للغاية كما نقرأ في رسالته إلى أهل فيليبي إصحاح 3 وعدد 5 :
" مِنْ جِهَةِ الْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ الْعِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ النَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ"
وهو الذي حذر أهل كولوسي من تأثرهم بالشعائر الوثنية غير المسيحية، منبهاً إياهم من الانسياق وراء تقليد الناس:
" اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل، حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ" (كولوسي 2 : 8)؛


5-   لقد كانت الديانة المسيحية الأولى ديانة حصريّة تتطلب منك التقدّس والتفرغ بالكامل للإيمان المسيحي، كما يوضح الباحث J.Machen، وليست كالعبادات الوثنية، حيث يوضح الباحث:
من الممكن أن يتلقّن شخص ما مبادىء عبادة إيزيس أو ميثرا، دون أي حاجة للتخلي عن إيمانياته الأسبق، ولكنه في حال أراد أن يصير مسيحياً، فلكي يُقبل في الكنيسة، عليه ووفقاً لتعليم الرسول بولس أن ينبذ كل إيمانياته الأخرى وآلهته الوثنيين ويؤمن بالرب يسوع المسيح فقط مخلصاً. بين كل ما كان سائداً في العالم اليوناني-الروماني حينئذ، فإن دين الرسول بولس المسيحي، إلى جانب الدين اليهودي الإسرائيلي، دين فريد لا مثيل له
ومن هذا المنطلق، منطلق كون المسيحية ديانة لا تقبل أي ديانة ولا معتقد آخر معها، علينا أن نفهم العلاقة بين المسيحية والأديان الوثنية، التي كانت أصلاً علاقة تنافسية، لدرجة أن أي إشارة للاستعارة من عبادات المجتمع الوثني في العهد الجديد كانت ستثير الجدل في الحال.


6-   بخلاف الأديان الوثنية، فإن الدين المسيحي الذي نادى به بولس الرسول كان مبنياً على أحداث تاريخية حصلت حقاً، وليست مجرد أساطير خيالية، فتلك الأديان الوثنية كانت في صميمها غير تاريخية، بأساطيرها الخرافية الدرامية التي كانت تعكس صورة ما يمر به الملقِّن أو المعلم الوثني، وليست أحداث تاريخية واقعية كموت المسيح على الصليب وقيامته مما علّم به بولس. بالتالي، كان المؤمن المسيحي يؤكد أن موت وقيامة المسيح واقعتان حدثتا لشخص حقيقي عاش على هذه  الأرض في وقت ومكان معينين، بما لا نجد له أي نظير في أي عبادة أو دين وثني؛


7-   بعد كل هذا، فإن ما يبقى من التشابهات بين المسيحية والوثنيات قد يكون انعكاساً لما أثرت به المسيحية على الأديان الوثنية، وليس العكس. حيث يقول Bruce Metzger:

إنه لمن الخطير أن نفترض تأثّر المسيحية دوماً بالأديان الوثنية،  ذلك أنه من المحتمل بل من المرجّح في حالات معيّنة كون تلك الأديان الوثنية هي التي تأثرت بالمسيحية وتعاليمها
في الحقيقة، ليس من المفاجىء أن يقوم قادة العبادات الوثنية التي هددتها وتحدتها المسيحية بنجاح بالرد على هذا التحدي المسيحي الصاعد، ولعل أفضل طريقة للرد كانت بتوفير بديل وثني للمسيحية، هذا وأننا نرى أن أسلوب مقاومة تأثير المسيحية المتصاعد من قبل الوثنيين عن طريق تقليدها بشكل زائف اتُبع حقاً في الإجراءات التي أسسها جوليان المرتدّ، والذي كان الامبراطور الروماني بين عامي 361 – 363.

إننا حقاً لا نستطيع أن نجد مصادر كافية للأديان الوثنية حتى القرن الثالث الميلادي، بما تحمله من معلومات عن تلك العبادات سطّرها كتّاب ذلك العصر، مما لا يسمح باسترجاع حالة تلك الأديان الوثنية إلا على ما كانت عليه في القرن الثالث الميلادي وليس قبله. رغم ذلك، فإن العديد من الكتّاب يعتمدون على ذلك المصدر التاريخي المتأخر نسبياً (بعد العام 200 ميلادي) ليعيدوا بناء ما كانت عليه تلك الأديان في القرن القرن الثالث الميلادي، ومن ثم، ومن دون أي حذر ولا حرص، يعتقدون أنها هي نفسها حالة الأديان الوثنية على ما كانت عليه في القرن الأول الميلادي. إن هذا التصرف يعد تصرفاً رديئاً جداً على الصعيد البحثي، ولا يجب أن يمر دون اعتراض، إذ أن ما يصلنا من معلومات عن العبادات التي تعقب آخر كتب العهد الجديد القانونية بمئات السنين لا يمكن أن نفترض كونها هي ذاتها ما كان في القرن الأول الميلادي.


يواجه العديد من طلاب الكليات المسيحيين انتقادات عديدة تختص باتهام المسيحية والعهد الجديد بسرقة حقائق إيمانية هامة و ممارسات مسيحية من عدد من الأديان الوثنية، تصل في حدّتها إلى المساس بمبادىء مسيحية مركزية كموت المسيح وقيامته، إلا أن الأدلة التي تدعم مثل تلك الادعاءات، في حال وجدت أية أدلة أصلاً، تكمن في مصادر تتأخر بعدة قرون عن العهد الجديد. والأكثر من ذلك، أن تلك التماثلات المزعومة غالباً ما تتمخض عن بعض الباحثين الذين يصفون تلك العبادات والممارسات الوثنية باستعمال لغة المسيحية، ومن ثم يندهشون ويتعجبون من التوازيات الأخّاذة التي يظنون أنهم قد اكتشفوها بين المسيحية والوثنية.
وكخلاصة للنقاط الأساسية فيما سبق، فإنه في كل مرة تواجهنا نظرية مزعومة ترمي إلى القول بسرقة المسيحية من الديانات الوثنية، لنضع أمامنا القضايا المنطقية التالية:

- قضية المصطلحات:
من أهم الأمور التي لابد من أخذها في الحسبان أن نضع قضية المصطلحات في بالنا أمام تلك الادعاءات، ذلك أن المدعين وكما أشرنا يقومون باستعمال ألفاظ غير دقيقة مستعارة من الديانة اليهودية-المسيحية. مثلاَ، إذا سبرنا التاريخ نجد أن العديد من الأديان الوثنية تضمنت اشتراك معتنقيها في حمامات طقسية معينة، ولكنهم بالتأكيد لم يكونوا "يعتمدون"! كما قد نجد بعض المجموعات السياسية والدينية التي احتفلت بموائد مشتركة بين بعضهم البعض، ولكنهم بالتأكيد لم يحتفلوا بالـ"إفخارستيا"! وقد نجد بعض الوثنيين من عدّ إلهه مخلصاً بمعنى ما، ولكنه بالتأكيد لم يكن "المسيّا"! هذا وأن الأديان الوثنية قد لا تخلو من الاعتقاد بالحياة الثانية بعد الموت، إلا أنهم لم يروها في "جهنّم" و "الملكوت".
ومنه، لا ينبغي أن يخفى علينا ما قد يلجأ إليه المنتقدين الجهّال أو الخبثاء في استعمالهم للألفاظ والمصطلحات يهودية-مسيحية الأصل، في سعيهم الدؤوب لجعل أقوالهم الهشّة أكثر قوة وأصالة دون حقّ.


- قضيّة التوقيت:
أمام كل دليل مقارَن، يجب وضع الأمور التالية في الحسبان:
1) هل الوصف المقدّم يسبق تاريخياً النبوات المسيّانيّة الواردة في العهد القديم منذ 450-1500 سنة قبل الميلاد؟ (في الغالب لا يفعل)
2) هل تأريخ الدليل المقدّم يسبق المسيحية؟ (العديد من النصوص الدينية تلت المسيحية في تاريخها)
3) هل الشخصية المقدمة في الدليل تسبق تاريخ حياة المسيح؟ (في الغالب لا)


- قضيّة المكان:
إن ادّعى أحدهم أن شخصية معينة من أمريكا الجنوبية كانت أصلاً للمسيحية، من قبيل كويتزالكواتل (Quetzalcoatl)، يتضح بسهولة زيف هذا الادعاء، لأن الأمريكيتين لم تكونا قد اكتُشفتا بعد حتى تؤثرا على المسيحية بأي شيء كان.


- قضيّة الرمزيّة:
لابد من طرح المعاني الكامنة وراء الرموز المدعى تشابهها بين المسيحية والوثنية، في إطار تحليل مدى السرقة المزعومة الحادثة
فقد نجد الصليب مثلاً في أوروبا ما قبل التاريخ، ولكن بمعنى مختلف تماماً عن صليب المسيحية الذي صُلب عليه المخلّص، حيث كانوا يصلبون الناس ومن ثم يقطعونهم وينثرون أجسادهم بين الزروع من أجل الخصوبة! ورمز السمكة، الذي كان رمزاً مسيحياً بمعنى "يسوع المسيح ابن الله مخلص"، قد نجده في ديانة وثنية قديمة ليشير إلى الإلهة الأم الأعظم وبمعاني جنسية سافرة، وبنفس المنطق، ليس كل من اشترك في موائد طقسية كان يعني بها الأفخارستيا المسيحية، ولا كل من رأى في وثن ما مخلصاً عنى به عقيدة الخلاص من الموت والشيطان والخطيّة، لاسيما وأن المسيحية عبّرت عن الحوادث والوقائع والحقائق بتلك الرموز، لا عن الأساطير والخرافات.


 - قضيّة المصادر:
هل تعود الادعاءات في مصادرها إلى النصوص المقدسة  الأصلية للديانات الوثنية؟ في معظم الأحيان لا يكون الأمر كذلك. غالباً ما يقوم المدعون بالاعتماد على مصادر ثانوية لمؤلفين وكتّاب من نفس صبغتهم، كما أنك تستطيع أن تلاحظ انتقاص مصادرهم للتحديد التفصيلي، في حين أنهم يشيرون بكل تفصيل إلى آيات الكتاب المقدس باعتبارها مسروقة، ومن المنطقي لأي ادعاء أن يقوم على تحديد مفصّل للدليل الوارد في الكتابات الدينية المقدسة الأساسية، لا المنحولة.
هذا ونشير إلى حقيقة هامة أيضاً، وهي أن الأديان الوثنية ليست قانونية كما في المسيحية، بل مصادرها ونصوصها عُدلت عمداً وأضيف إليها عدة مرات عبر القرون المتلاحقة، مما يلقي الضوء على أهمية كون المصدر الديني الذي يقوم عليه الادعاء يسبق زمنياً المسيحية بالدرجة الأولى، وليس مصدراً معدلاً أو متأثراً بالمسيحية نفسها، مما يكشف الستار عن زيف الكثير من الادعاءات مع "أدلتها" المضلّلة.
[المصادر : 1 ، 2]

الله والصخرة : متناقضة القدرة الكلية

لعل متناقضة القدرة الكلية من أكثر الجدليات "المنطقية" التي قد يطرحها أي ملحد، وهي في حد ذاتها تنتمي إلى عائلة من المتناقضات الدلالية، تقوم في لبّها على محاولة البت في إمكانية وجود كائن كليّ القدرة منطقياً، وتحديد معنى "القدرة الكلية" كذلك.

تقوم فكرة مثل هذه المتناقضات على الجدال المنطقي القائل بأنه، إن كان لدينا كائن قادر على كل شيء، فهو:
- إما قادر على إيجاد عمل ما لا يقدر هو نفسه أن يقوم به، ومنه لا يكون ذلك الكائن قادراً على كل شيء بالنهاية؛
- أو لا يقدر على إيجاد مثل ذلك العمل، ومنه لا يكون قادراً على كل شيء كذلك.
هل يستطيع الله أن يخلق صخرة لا يقدر أن يحملها؟

سوف نتناول مثل تلك القضية المنطقية بدراسة إحدى نسخها العائدة إلى القرون الوسطى، والتي تدعى متناقضة القدرة الكلية Omnipotence paradox، أو متناقضة الصخرة paradox of the stone، وأفضل تلخيص لماهية متناقضة القدرة الكلية هو على شكل السؤال التالي (مع وجود أسئلة أُخرى تعبّر عن نفس المتناقضة):
" إذا كان الله قادر على كل شيء، هل يستطيع الله أن يخلق صخرة لا يقدر أن يحملها؟"
بالنظر إلى بنية السؤال (سؤال هل)، فإن الجواب سيكون بنعم، أو لا، وفي كلتا الحالتين لا يكون الله قادراً على كل شيء، فإن كان الجواب بنعم، فهذا ينفي قدرة الله عن حمل تلك الصخرة التي خلقها لتوه، وإن كان الجواب لا، فهو ينفي قدرة الله على خلق مثل تلك الصخرة.

بما أن ما نناقشه متناقضة، فهو إذاً عبارة تنطوي على تناقض، أي أنها منافية للمنطق، ومن البديهي أننا لن نصل أصلاً إلى جواب منطقي صحيح عبر تساؤل لامنطقي غير صحيح، فأين التناقض المنطقي فيه؟
السؤال يفترض أن الله قادر على كل شيء بالمطلق، وهذا أمر غير صحيح، فالله غير قادر على كل شيء ممكن أن يخطر ببالنا، بل هو قادر على كل شيء منطقي ويوافق طبيعته وأقانيمه، حيث من المهم أن نعلم بأن تعبير القدرة الكلية يعني بالدرجة الأولى أن لا حد لتلك القدرة، فهو تحديد كمي بالدرجة الأولى على أن يكون نوعي، والمستحيل منطقياً لا يصبح ممكناً في حال زيادة كمية القدرة، كما أن المنطق هو الأقنوم الثاني من الله الواحد في ثالوث (الكلمة اللوغوس (من logic) عقل الله الناطق)، فطبيعة الله منطقية لا تنافي المنطق، كما أن الكتاب المقدس نفسه يسرد بعض الأمور التي لا يقدر الله أن يقوم بها على ضوء ما أوضحنا، فالله مثلاً لا يقدر أن يكذب (عبرانيين 6: 18) لأن هذا ضد طبيعته المنطقية الأزلية المطلقة الصلاح.


من الأمور غير الممكنة على الله كذلك: أن يحب الشر (لأنه مطلق الصلاح) أوأن يفعله، وأن يلغي وجود ذاته (لأن موجود بذاته ولا يمكن أن يكون موجود وغير موجود معاً فهذا أمر غير منطقي وضد قوانين المنطق)، أن يخلق إلهاً غير محدود معه (لأنه غير محدود ولا يمكن لأمرين لامحدودين أن يتواجدا معاً بتمايز وإلا حدّا بعضهما).
فإذا عدنا إلى السؤال نرى أنه باطل، لأنه يفترض أن الله قادر على كل شيء ولو ضد المنطق والصلاح، وهذا منطقياً غير ممكن.
كما أن السؤال باطل، لأنه يرمي إلى وجود صخرة لا يقدر الله غير المحدود أن يحملها، بالتالي هذه الصخرة لو وُجدت لابد أن تكون غير محدودة على أقل تقدير، بالتالي يطلب وجود شيئين غير محدودين معاً، وكما أوضحنا، هذا منطقياً غير ممكن.
إلى جانب أن الصخرة اللامحدودة لم تعد مادة، لأن المادة لا يمكن أن تكون غير محدودة، فاللامحدودية ليست من طبع المادة، وهذا تناقض منطقي كذلك.

أضف إلى ذلك، إن كنت أتكلم عن كائن قادر على كل شيء، كيف من المنطق أن أستخدم، وفي نفس السياق، عبارة مثل " لا يقدر أن يحملها" أصلاً ؟  لعمري إنه سؤال لامنطقي، والخطأ في السؤال وسذاجته وليس في الله، فهو كمن يقول: هل يقدر الله أن لا يقدر؟ أو هل يقدر الله ألا يكون الله؟ فإن قلنا أن كلي القدرة قادر على ألا يقدر، نكون قد عرفنا القدرة الكلية كاستحالة منطقية منذ البداية، لتضارب السياق مع المعنى كما أوضحنا.

مثال علميّ آخر يوضح اللغط المنطقي في مثل تلك المتناقضات، أن نسأل: هل يمكن لقوة غير محدودة (طاقة لانهائية) أن تزيح شيئاً غير قابل للحركة (ممانعة لانهائية)؟ وهنا أيضاً إن كانت القوة غير محدودة فلا وجود لشيء لا يمكن أن تزيحه ضمن هذا السياق، وإن وجد شيء مقاوم لا يتحرك أبداً فلا وجود لقوة غير محدودة في هذا السياق لأنها لن تقدر أن تزيحه، وهو بنفس المنطق سؤال خاطىء وفقاً لنظرية النسبية الخاصة بآنشتاين، لأن القوة غير المحدودة هي طاقة أعظمية في الكون، والشيء المقاوم غير المزاح هو طاقة أعظمية كذلك، والكون بالتعريف لا يمكن أن يحوي شيئين أعظمين، وهذا ما يؤكده حتى البروفيسور الملحد اسحق أسيموف، فإن مجرد سرد مجموعة كلمات لتكوّن جملة تبدو متماسكة قواعدياً لا يعني بالضرورة أن تكون تلك الجملة معقولة وذات معنى.

 من الأسئلة المتناقضة المشابهة: متناقضة الكذّاب، حيث إن قال لك شخص: "أنا كاذب"، فأنت أمام احتمالين:
- أن تصدقه، وهذا يعني أن تصدق أنه كاذب، فكيف استطعت أن تصدقه مادام هو باعترافه كاذب؟
- ألّا تصدّقه لأنه وباعترافه كاذب، وكل ما يقوله كذب، بالتالي يكون قد كذب عليك أيضاً عندما قال لك "أنا كاذب"، فيكون بالتالي صادقاً، فكيف لم تصدّقه منذ البداية؟

إذاً، الله إلهنا صالح وإلى الأبد رحمته، وهو إله منطقي بطبيعته وأقنومه الثاني، فما كان بالتعريف مستحيل منطقياً، أو ما كان مخالف للصلاح، لن يكون من ضمن الأمور التي يقوم بها الله من الأساس، وهذا لاينفي أنه قادر على كل شيء صالح ومنطقي ويريد القيام به، وأما من يقول بأن على الله أن يكون قادر على فعل كل شيء بالمطلق مهما كان، فهو يخالف تعريف الكتاب المقدس لله وللقدرة الكلية المنوطة به، ونحن لا نؤمن أصلاً بهكذا إله.
[المصادر : 1 ، 2 ، 3 ، 4]